فسيح البهو في عدم ثبوت حديث عائشة في العفو

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمد لله واسع الجود والعفو والمغفرة، الذي أنار لنا سبل الهُدى والتَّذكرة، وصلَّى الله على نبيِّه المصطفى، وخليله المُجتبى، وعلى آله وصحبه النُّجباء.

أمَّا بعدُ

فهذه دراسةٌ حديثيةٌ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: “يَا نَبِيَّ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ؟” قَالَ: (تَقُولِينَ: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي).

وهذا الحديث  أخرجه أحمد (ج42 ـ 25384ـ 25495ـ 25497ـ 25741) ط/ مؤسَّسة الرِّسالة، واللَّفظ له، والتِّرمذيُّ (ج5ـ 3513) ط/ دار الغرب الإسلاميِّ، وقال: “هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ “. اهـ  والنَّسائيُّ في “الكُبرى”(ج7ـ 7665)، و (ج9ـ 10642ـ 10643ـ 10644ـ 11624) ط/ مؤسَّسة الرِّسالة، وفي “عمل اليوم واللَّيلة” (ج1ـ 872ـ 873ـ 874ـ 875ـ 876) ط/ مؤسَّسة الرِّسالة، وابن ماجة (ج2ـ 3850) ط/ دار إحياء الكتب العربيَّة، مِن طريق كهمس بن الحسن وسعيد بن إياسٍ الجٌريريِّ، عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة رضي الله عنها. 

وفي الطَّريق الثانية لأحمد، يزيد بن هارون سَمع مِنَ الجُريريِّ بعد الاختلاط؛ لكنَّه متابعٌ بسفيان الثَّوريِّ، عند النَّسائيِّ في “الكٌبرى” وفي “عمل اليوم واللَّيلة”، وعبد الرحمن بن مرزوقٍ عند النَّسائيِّ في “عمل اليوم واللَّيلة”.

وفي رواية أحمد مِن طريق محمَّد بن جعفرٍ ويزيد بن هارون، وفي رواية النَّسائي مِن طريق المعتمر بن سليمان، رواية الثَّلاثة عن كهمسٍ عن عبد الله بن بريدة، حكاية واقعة سؤال عائشة رضي الله عنها للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم؛ ولهذا قال النَّسائيُّ مرسلٌ. 

وعبد الله بن بريدة لم يَسمع مِن عائشة، نصَّ على ذلك الدَّارقطنيُّ في “سُننه”(ج4 ص 335)ط/ مؤسَّسة الرِّسالة.

وأخرجه أحمد (ج43 ـ 26215)، والنَّسائيُّ في “الكبرى” (ج9ـ 10647)، وفي “عمل اليوم واللَّيلة” (ج1ـ 877)، وأبو يعلى في “المعجم” (ج1ـ 43) ط/ إدارة العلوم الأثرية فيصل أباد، والطَّبرانيُّ في “الدُّعاء” (ج1ـ 916) ط/ دار الكتب العلميَّة، والقُضاعيُّ في “مسند الشِّهاب” (ج2ـ 1478) ط/ مؤسَّسة الرِّسالة، والحاكم (ج1ـ 1942) ط/ دار الكتب العلميَّة، مِن طريق الأشجعيِّ عبيد الله بن عبيد الرَّحمن، عن سفيان الثَّوريِّ، عن علقمة بن مرثدٍ، عن سليمان بن بريدة، عن عائشة. 

وخُولف الأشجعيُّ، مِن طرف مخلد بن يزيدٍ الحرَّانيِّ عند النَّسائيِّ في “الكبرى” (ج 9ـ 10646) وفي “عمل اليوم واللَّيلة” (ج1ـ 876). وعمرو بن محمَّدٍ القرشيِّ عند إسحاق بن راهوية في “المسند” (ج3ـ 1362) ط/ مكتبة الإيمان بالمدينة، والبيهقيِّ في “الأسماء والصِّفات” (ج1ـ 92) ط/ مكتبة السَّوادي جدة، و”الدَّعوات الكبير” (ج2ـ 533) ط/ غراس للنَّشر والتَّوزيع الكويت. وعليِّ بن قادمٍ عند القُضاعيِّ في “مسند الشِّهاب” (ج2ـ 1475)، والرَّاوي عنه عبد الرحمن بن محمَّدٍ الحارثيِّ ضعيفٌوالنُّعمان بن عبد السَّلام عند ابن منده في “التَّوحيد” (ج2ـ 300) ط/ مكتبة العلوم والحكموإسحاق الأزرق كما ذكَر الدَّار قطنيُّ في العلل (ج15ص  88) ط/ دار طيبة الرِّياض، فرووه عن سفيان، عن الجُريريِّ، عن عبد الله بن بريدة عن عائشة، وهم أولى منه.

وبالتَّالي يتَّضح أنَّ ما عدَّه محمَّد بن حزامٍ في “فتح العلَّام” (ج2 ص755) ط/ مكتبة ابن تيمية، متابعةً: هو في الحقيقة وهمٌ. 

وتابع سفيان عن الجُريريِّ، عبد الرحمن بن مرزوقٍ عند النَّسائيِّ في “عمل اليوم واللَّيلة” (ج1ـ 875). وخالد بن عبد الله الطحَّان عند المروزيِّ في “مختصر قيام اللَّيل” (ج1 ص259) ط/ حديث أكاديمي فيصل أباد، و القُضاعيِّ في “مسند الشِّهاب” (ج2ـ 1474)، وفي إسناده: محمَّد بن أبي نعيمٍ الواسطيُّ ضعيفٌ؛ لكنَّه متابعٌ بوهب بن بقية عند المروزيِّ.

وخالف سفيان، عبد الحميد بن واصلٍ عند الطَّبرانيِّ في “الدُّعاء” (ج1ـ 915)، في سنده ومتنه، فرواه عن الجُريريِّ، عن أبي عثمان النَّهديِّ عبد الرَّحمن بن مُلِّ، عن عائشة، ولفظه “رمضان” بدل “ليلة القدر”. وهو منكرٌ؛ لأنَّ عبد الحميد مجهول حالٍ، وفي إسناده أيضًا: سليمان بن المعافى ضعيفٌ، وروايته عن أبيه وجادةٌ وهذه منها. وأخرجه القُضاعيُّ في “مسند الشِّهاب” (ج2ـ 1476)، مِن وجهٍ آخر وفي إسناده: عبد الرحمن بن محمَّدٍ الأدفويُّ مجهول عينٍ، وأحمد بن سليمان الجُريريُّ مجهول حالٍ، والوليد بن عمرو بن ساجٍ ضعيفٌ، وعبد الحميد بن واصلٍ وقد تقدَّم، وبينه وبين عائشة مفاوزُ تنقطع لها أعناق الإبل.

وأخرجه النَّسائيُّ في “عمل اليوم واللَّيلة” (ج1ـ 878)، موقوفًا على عائشة رضي الله عنها، مِن طريق عبد الله بن جبيرٍ، عن مسروقٍ عنها، وعبد الله المذكور لا توجد له ترجمةٌ.

وأخرجه موقوفًا أيضًا ابن أبي شيبة في “المصنَّف” (ج6ـ 29187) ط/ مكتبة الرُّشد  بالرِّياض، والبيهقيُّ في “شُعب الإيمان” (ج5ـ 3428) ط/ مكتبة الرُّشد، مِن طريق شُريح بن هانئٍ، وفي إسناده: أحمد بن عبد الجبَّار ضعيفٌ، لكن تابعه ابن أبي شيبة؛ ممَّا يشعِر بأنَّ للموقوف أصلًا.

ختامًا أحمد المولى عزَّ وجلَّ، على توفيقه إيَّاي لهذا العمل الصَّالح، في هذا الشَّهر الفاضل؛ و المتمثِّل في الذَّبِّ عن سنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم.

فله المحامد كلُّها، وهو حسبي ونعم الوكيل، وإليه المصير، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.

                 تمَّ الفراغ منها ليلة الأربعاء 28 رمضان 1444 هجريِّ

                   كتبه أبو عبد الله إبراهيم بن خالدٍ التِّبسيُّ الجزائريُّ

                                   في الرَّباح وادي سوف

كشف تشكيك الخنشلي الخسيس في نقد الإمام الوادعي

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمد لله الذي ارتضى لعباده الإسلام، وأمرهم بالتَّمسك بسنَّة خير الأنام، والصَّلاة والسَّلام عليه وعلى آله وصحبه الكرام.

أمَّا بعدُ

فيومًا بعد يومٍ نَرى العَجب العُجاب، مِن تخريفات بعض الجهَّال، فبَعد أن يكتُب حرفًا أو حرفين، كُلُّها دعوةٌ إلى التَّقليد، وتعظيم للأشخاص على حساب الشَّرع؛ بدعوى تعظيم حملة الشَّريعة مِنَ العلماء. فما يلبث أن ينقلب عليهم، مشكِّكًا في علومهم ونقدهم المبنيِّ على القواعد الشَّرعية. وهو مع ذلك يدَّعى أنَّه مِن عامة النَّاس، شاهدًا على نفسه بعدم الأهلية لهذا الأمر، ثُمَّ يخوض فيه بجهلٍ وكذبٍ ومكرٍ، مقيمًا بذلك الحٌجَّة على نفسه قبْل أن يقيمها عليه غيره.

وبطلُ قصَّتنا اليوم وأنموذج هذا النَّوع، هو الشَّريف فرُّوج الخنشليُّ. وهذا نصُّ كلامه منقولٌ مِن صفحته في فيسبوك.

مَن عنده علمٌ يُفيدنا

“قَبل سنواتٍ وفي حياة الشَّيخ بكرٍ أبو زيدٍ رحمه الله تعالى، أثارالشَّيخ ربيعٌ المدخليُّ – وفّقه الله وأحسن لنا وله الختام – مسألة بين السَّلفيين، وهي قوله:  “بأنَّ الشَّيخ بكرًا يُدافع عن سيِّد قطبٍ، وما رأينا ولا سمِعنا في ذلك دليلًا ملموسًا قطعيًّا يَشفي الغليل ، ورغم ذلك خاض النَّاس ما خاضوا، حتَّى وصل الحال ببعضهم إلى تبديع الشَّيخ بكرٍ رحمه الله تعالى ورميه بالعظائم، وهذا أمرٌ مُنكرٌ لأنَّ الجَرح لا يُبنى إلَّا على أدلَّةٍ ظاهرةٍ شأنه شأن أحكام الشَّريعة السَّمحة الأخرى، سيما والشَّيخ بكرٌ رحمه الله عالم مِن علماء المسلمين السَّلفييين، وكان مع الإمام ابن بازٍ في هيئة كبار العلماء، وله جهودٌ عظيمةٌ في جانب الرَّدِّ على المبتدعة منها كتابه: “حكم الانتماء إلى الجماعات والأحزاب الإسلامية”، وكتاب “الرَّدُّ عى المخالف مِن أصول الإسلام”، وكتاب “هجر المبتدع”، وكتاب “التَّعالم وأثره على الفكر والكتاب” وغيرها.

وقبل أيَّامٍ كنت أقرأ رسالة: “أيَّتها العير إنَّكم لسارقون” للشَّيخ حُسينٍ الحَطيبيِّ حفظه الله تعالى ذكَر فيها كلام الشَّيخ يحيى الحَجوريِّ حفظه الله تعالى في الشَّيخ بكرٍ وهو قوله: “بكرٌ أبو زيدٍ يُذافع عن سيِّد قطبٍ، وله كتبٌ انتقدها شيخنا مقبلٌ رحمه الله”
فقوله حفظه الله تعالى: “يُدافع عن سيِّد قطبٍ”، أظنُّ أنَّه مشتقٌّ ممَّا أثاره الشَّيخ ربيعٌ، وقوله له كتبٌ انتقدها شيخنا فيه نظرٌ، لأنَّ ما انتقده الشَّيخ مقبلٌ رحمه الله تعالى هو كتاب “تصنيف النَّاس” فقط ، ورَغم ذلك فمن قرأ الكتاب وتأمَّله جيِّدًا يجِد الشَّيخ بكرًا لا يقصد بكلامه إلَّا أولئك الذين عظُمت فتنتهم وتجرّؤهم على أعراض السَّلفيين يخبطون فيها خبط عشواءٍ، وأدخلوهم في حروبٍ طاحنةٍ، وقد ظهَر هذا جليًّا في الآونة الأخيرة بين الشَّيخ ربيعٍ المدخليِّ وعبيدٍ الجابريِّ ومحمَّدٍ المدخليِّ، ومَن يُسمُّون بالصَّعافقة والمُصعفقة، والله تعالى أعلم”. اهـ

وقد احتوى كلامه على: تعالمٍ ومغالطاتٍ، تتمثَّل في ما يلي:

1ـ قوله: “أنَّ دفاع الشَّيخ بكرٍ رحمه الله عن سيِّد قطبٍ، ممَّا أثاره الشَّيخ ربيعٌ وفَّقه الله”. اهـ

مع أنَّ هذا الأمر ثابتٌ عنه، وكأنَّ الشَّيخ ربيعًا اشتطَّ وبغى عليه، والدَّافع له على ذلك هو: عدم الإنصاف الذي أمرنا به الله تعالى في كتابه قائلًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ } الأية [المائدة: 8]. 

وليس بمبرِّرٍ ما آل إليه  حال الشَّيخ ربيعٍ، بأن نقول ما ليس فيه، أو نردَّ أمرًا أصاب فيه. وهذه طريقةٌ ظهرت مؤخَّرًا مِن طرف بعض سفهاء الأحلام؛ فإذا كان أحدهم على السُّنَّة ثُمَّ تغيَّر، يقوِّلونه ما لم يقله، ويرفضون كُلَّ حقٍّ يأتى به. مع أنَّ الحقَّ يُقبل مِن كُلِّ مَن جاء به، ويدلُّ لذلك قوله تعالى تصديقًا لقول بلقيس ملكة سبأ: {وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ} [النَّمل: 34]. لمَّا قالت: قالت إنَّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزَّة أهلها أذلَّة. 

وما جاء عن طُفيل بن سَخبرة، أخي عائشة لأمهَا، أَنَّهُ رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، كَأَنَّهُ مَرَّ بِرَهْطٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْيَهُودُ، قَالَ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْقَوْمُ، لَوْلَا أَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَرَّ بِرَهْطٍ مِنَ النَّصَارَى، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ النَّصَارَى، فَقَالَ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْقَوْمُ، لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، قَالُوا: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ، لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: (هَلْ أَخْبَرْتَ بِهَا أَحَدًا؟) قَالَ عَفَّانُ: قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا صَلَّوْا، خَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا فَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنُعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ، أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا) ، قَالَ:( لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ، وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ).(1) 

والشَّيخ ربيعٌ في تلك الحقبة ممَن يُقبل كلامه في الجرح والتَّعديل؛ لإنصافه ونقل الحقائق والتَّجرُّد لدين الله. لكن بعد ما أحدث في الفترة الأخيرة، مِن تقعيداتٍ وأصول فاسدةٍ، يُتوقَّف في الأخذ عنه. 

وفي هذا الشَّأن وقَفت على صوتية للشَّيخ زيد بن هادي المدخليِّ رحمه الله، أدان فيها الشَّيخ بكرًا بالدِّفاع عن سيِّد قطبٍ، وحذَّر مِن كتابه “تصنيف النَّاس بين الظَّن واليقين”. 

حينما سئِل عن هذا الأمر، السَّائل: “أحسن الله إليكم، ما رأيكم في كتاب “تصنيف النَّاس بين الظَّن واليقين”، وهل مِنَ الإنصاف الإرشاد إلى اقتنائه، وهل يجوز تطبيقه على جماعة مِن طلبة العلم عُرفوا بالعقيدة السَّلفية والمنهج السَّليم، أفيدونا مؤجورين”. 

 فكانت إجابته رحمه الله: “كتاب “تصنيف النَّاس بين الظَّن واليقين” طبعًا هذا كتابٌ معروفٌ، مِن مؤَّلفات بكرٍ أبو زيدٍ رحمه الله. مؤَّلفاته التي نفَع الله بها معروفةٌ للنَّاس، ككتاب “حكم الانتماء للأحزاب”، وما أورد فيه مِن ذمِّ الحزبيَّة والتحذير منها، كتابٌ جليلٌ، يحتاج إليه طالب العلم، وكتاب “هجر المبتدع”، أجاد فيه وأفاد، وكتاب ” الرُّدود” مِن كتب الرُّدود المعروفة.

وهذا الكتاب “تصنيف النَّاس بين الظَّن واليقين”، مِنَ آخر مؤَّلفاته، كان له ملابساتٌ، تزامن مع رسالة كتبها بكرٌ للشَّيخ ربيع بن هادي المدخليِّ؛ تتعلَّق بردود الشَّيخ ربيعٍ على سيِّد قطبٍ وجماعته. فأنكَر بكرٌ على الشَّيخ ربيعٍ إنكارًا شديدًا وقال له: ” لا تقاربه في المنزلة ولا تساويه، فسيد يحلِّق في السَّماء، وأنت كطالبٍ في المتوسِّط، كلامٌ يعتبَر زلَّة عالمٍ. وهذا الكتاب ألِّف في هذا الوقت، فرح به الإخوان المسلمون، فرحوا بهذا الكتاب والخطاب. الخطاب أخذوه مِن بكرٍ ما أدري متى أخذوه، وطبعوه ووزَّعوه في المشارق والمغارب. حتَّى حلف بكرٌ أبو زيدٍ أنَّه ما هو راضي عن توزيع الخطاب، اللي يسموه نصيحةً، في الحرم وفي كُلِّ مكانٍ؛ لأنَّ فيه ثناءً على سيِّد قطبٍ وكتبه، وفيه تنقُّصٌ لربيعٍ المدخليِّ. وهذا الكتاب “التَّصنيف” فرح به الإخوانية أيضًا؛ لأنَّ فيه إجمالًا، دمجٌ بين حقٍّ وخطإٍ. أوَّل ما بدأ قال: “إنَّك تسمع وتَرى للقارئ، ماذا يقولون يقولون: هذا إخوانيٌّ، وهذا تبليغيٌّ، وهذا طرقيٌّ، وهذا أشعريُّ، وذاك معتزليٌّ، يعني نكير هذه، وهذه لا يجوز أن تنكَر. لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلًّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً). قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ. قال: (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِِي).(2) فأخبَر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الفِرق، فلا وجه لإنكار أن يقال: ذاك أشعريٌّ، وذاك معتزليٌّ، وذاك مرجئٌ، وذاك إخوانيٌّ، وذاك تبليغيٌّ لا حرج. ثُمَّ ألَّف العلماء  مؤلَّفاتٍ في الرَّدِّ على الفِرق المتعدِّدة، ألَّفوا كتبًا معروفةً ومشهورةً، ردُّوا فيها على الجهمية، وعلى المعتزلة وعلى الأشاعرة و الكلَّابية والماتريدية وغيرهم وغيرهم. فصار هذا الكتاب لا يستفاد منه، ويطلع مَن قرأه بارتباكٍ، لا سيما مِن طلَّاب العلم الذين هم في البداية. فلا يحتاجون إلى هذا الكتاب أبدًا، ولا ينبغي التَّرويج له، فقد صار فتنةً وقت التَّعليم، ومَن يُرشد إليه اليوم والأخذ به ويعني يمدحه أمام طلَّاب العلم، أخاف أنه سيعيد تلك الفتنة. فترك هذا الكتاب والغِنى في غيره مِن الكتب، وأسأل مِن الله عزَّ وجلَّ أن يغفِر لنا ولصاحبه، فالعلماء تحصل منهم الزَّلات. وقد ردَّ عليه الشَّيخ ربيعٌ بكتاب على الخطاب، وعلى كتاب “تصنيف”. ردَّ عليه بكتابٍ بيَّن فيه وجه الحقِّ بدليله، وسماه: “الحدَّ الفاصل بين الحقَّ والباطل”، وطبِع الكتاب وهو منشورٌ. فالمهمُّ لستم بحاجةٍ إلى هذا الكتاب، وإنَّما حاجتكم إلى غيره مِن الكتب الواضحة. التي فيها بيان منهج السَّلف عقيدةً ومنهجًا، وفيها بيان الرَّدِّ على المخالف، الذي كتَب فيه أوَّلًا بكرٌأبو زيدٍ رحمه الله. الرَّدُّ على المخالف مِن أصول الإسلام، ومِن قواعد الإسلام هذي هي القضية. ولا يجوز لأحدٍ أن يروِّج هذا الكتاب، ونظير هذا الكتاب؛ ممَّا فيه إجمالٌ وفيه إطلاقٌ؛ فيشوِّش عللى طلبة العلم فاحذروه”. اهـ

2ـ دعواه: “أنَّه لا يوجد دليلٌ ملموسٌ قطعيٌّ يشفي الغليل، على دفاع الشَّيخ بكرٍعلى سيِّد قطبٍ”. اهـ

وهذه مغالطةٌ، وكونه لم يَسمع ولم يَرى، لا ينفي وجود الدَّليل وأنَّ غيره سمِع ورأى. وقد تقدَّم مِن كلام الشَّيخ زيدٍ رحمه الله، أنَّ الشَّيخ بكرًا رحمه الله كتَب خطابًا يدافع فيه عن سيِّد قطبٍ، وزَّعه أهل البدع وطاروا به في كُلِّ البقاع، وكتَب مزامنةً مع ذلك كتابه “تصنيف النَّاس بين الظَّن واليقين”. وقد اطَّلع بعض أهل العلم على ذلك وهو كافٍ، وعلينا قبول خبرهم؛ لأنَّهم ثقاتٌ. وليس هذا المسلك بجديد عنك، فقد استخدمته في فتنة ابن حزامٍ، وهو مسلكٌ خلفيٌّ بدعيٌّ، ومع ذلك تدَّعي اتِّباع السُّنَّة، والله المستعان.

3ـ  قوله: “ورغم ذلك خاض النَّاس ما خاضوا، حتَّى وصل الحال ببعضهم إلى تبديع الشَّيخ بكرٍ رحمه الله تعالى ورميه بالعظائم، وهذا أمرٌ مُنكرٌ لأنَّ الجَرح لا يُبنى إلَّا على أدلِّة ظاهرةٍ شأنه شأن أحكام الشَّريعة السَّمحة الأخرى “. اهـ

اعلم أنَّ المفاسد النَّاشئة عن بيان الحقِّ وإظهاره يَتحمَّل وزرها صاحبُ الباطل، وليس صاحب الحقِّ، كما بيَّن ذلك الشَّيخ سعيدٌ رحمه الله في رسالته الماتعة “ضوابط الحكم بالابتداع” (ص32ـ 33) نُسختي فقال رحمه الله: “وإذا قامَ أهلُ الحقِّ بما أوجبَ اللهُ عليهم مِن بيانِ الحقِّ والتَّحذير مِنَ أهلِ الباطلِ، وتضلِيلِهم، والكشفِ عن عوارِهم، فجرَّ ذلكَ إلى الشِّقاقِ والفرقةِ، فإنَّ الـمُخالفَ هو الذي يتحمَّلُ تبعاتِ ذلك، وإليهِ تُنسبُ وتُضافُ، لأنَّهُ هو الذي تَعاطَى سبَبَه، وفرضُهُ الإقلاعُ والانتهاءُ عن مخالفتِه، وقد جاء في الشَّريعةِ ما يدلُّ على إضافةِ الشَّيءِ إلى سبَبِه في أدلَّةٍ كثيرةٍ.

قال المحقِّقُ أبو إسحاقَ الشَّاطبيُّ في “الموافقات” (1/ 335): إيقاعُ السَّببِ بمنزِلةِ إيقاعِ الـمُسَبَّبِ، قدر ذلكَ الـمُسبَّبَ أو لا، لأنَّهُ لمــَّا جُعلَ مسبَّبًا عنهُ في مجرى العاداتِ، عُدَّ كأنَّهُ فاعلٌ له، مباشرةً، ويشهدُ لهذا قاعِدةُ مجاري العاداتِ، إذ أُجريَ فيها نسبةُ الـمُسبَّباتِ إلى أسبابِها، كنسبةِ الشِّبعِ إلى الطَّعامِ، والإرواءِ إلى الماءِ، والإحراقِ إلى النَّارِ، وسائرَ الـمُسبَّباتِ إلى أسبابِها، فكذلكَ الأفعالُ التي تسبِّبُ عن كسبِنا، منسوبةٌ إلينا، وإن لم تَكُن مِن كسبِنا، وإذا كانَ هذا معهودًا معلومًا، جرى عرفُ الشَّرعِ في الأسبابِ الشَّرعيَّة مع مُسبَّباتِها على ذلك الوزانِ، وأدلَّتهُ في الشَّرعِ كثيرةٌ بالنِّسبةِ إلى الأسبابِ المشروعةِ، أو الممنوعةِ، كقولهِ تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ}(3)- وذكر أدلَّةً أخرى-.

ثُمَّ قال: ومِن ذلكَ ما لا يُحصَى، مع أنَّ الـمُسبَّباتِ التي تَحصلُ بها النَّفعُ أو الضَّررُ، ليست مِن فعلِ الـمُتسبِّبِ، إنَّما يدخلُ فيه مُقتضيًّا لـمُسبِّبهِ… قال: وذلك أنَّ ما أمرَ الله به، فإنَّما أمر به لمصلحةٍ يقتضيها فِعلُه، وما نهى عنه، فإنَّما نهى عنه لمفسدةٍ يقتضيها فعلُه، فإذا فعلَ فقد دخلَ على شرطِ أن يتسبَّب فيما تحتَ السَّبَبِ مِنَ المصالحِ والمفاسد، ولا يُخرجهُ عن ذلكَ عدمُ علمِهِ بالمصلحةِ أو المفسدةِ، أو بمقاديرِها…- فالفاعلُ ملتزمٌ لجميعِ ما ينتجه ذلك السَّببُ مِنَ المصالحِ والمفاسد، وإن جهلَ تفاصيلَ ذلكَ!!-. اهـ

وأمَّا الـمُحقُّ فلا يُنسبُ إليه شيءٌ ممَّا قد يجرُّ إليهِ إنكارُه، ولا يُنسبُ إليه فعلُه، لا كما يظنُّهُ دعاةُ التَّمييعِ والأفكارِ الخلفيَّة، فتصوَّرُ- إن أنصفَ- اشتراكَ الطَّرفين المختلفين فيما جرَّهُ الخلافُ، فلا يزالُ متخبِّطًا مُرتابًا، لا يكادُ يُقرُّ بالحقِّ لأهلِه- إن وُفِّقَ- إلَّا بعدَ عناءٍ على مضضٍ.

قال الإمامُ الـمُعلِّميُّ اليمانيُّ في “القائد إلى تصحيحِ العقائد” (ص242): “فإنَّ الآياتِ تحضُّ على إقامةِ الدِّين، والثباتِ عليهِ، والاعتصامِ به، واتِّباعِ السِّراطِ المستقيم، بل هذا هو المقصُودُ منها،- فالثَّابتُ على السِّراطِ لم يُحدثْ شيئًا!!، ولَم يقعْ بفعلهِ تفرُّقٌ ولا اختلافٌ!!، وإنَّما يَحدثُ ذلك بخروجِ مَن يخرُجُ عن السِّراطِ!!، وهو منهيٌ عن ذلكَ، فَعليهِ التَّبعةُ؟!!-“. اهـ

ولهذا قال العلَّامة أبو إسحاقَ الشَّاطبيُّ في “الاعتصام” (1/120 ط/ المعرفة): “فإنَّ فرقةَ النَّجاةِ، وهم أهلُ السُّنَّةِ، مأمورُونَ بعداوةِ أهل البدعِ، والتَّشريدِ بهم، والتَّنكيلِ بمن انحاز إلى جِهتِهم، بالقتلِ فما دونَه، وقد حذَّر العلماءُ مِن مصاحبتِهم ومجالستِهم، حسبَما تقدَّمَ،-وذلكَ مظنَّةُ إلقاءِ العَداوةِ والبَغضاءِ!، لكنِ الدَّركُ فيهَا على مَن تَسَبَّبَ فِي الخُروجِ عنِ الجَماعةِ؟!، بِما أحدَثهُ مِنِ إتِّباعِ غيرِ سبيلِ الـمُؤمنينَ!!!، لا عَلى التَّعاديِّ مُطلَقًا، كيفَ ونحنُ مأمُورنَ بمُعاداتِهم، وهُم مأمُورونَ بموالاتِنا، والرُّجوعِ إلى الجماعةِ!!!-“. اهـ

وقد بيِّن العلَّامةُ أبو إسحاقَ الشَّاطبيُّ سِرَّ المسألةِ، فحلَّ عِقالَها، وأزالَ إشكالَها، وافتضَّ أبكَارَها، حتَّى صارتْ مثل البيضَاءِ لا يحيدُ عنهَا إلا مائلٌ عن الحقِّ.

فقال في “الموافقات” (1/374-376): الأسبابُ المشرُوعةُ أسبابٌ للمصالحِ لا للمفاسدِ… فالذي يجبُ أن يُعلمَ أنَّ هذهِ المفاسدُ النَّاشئةُ عن الأسبابِ المـَشروعةِ… ليست بناشئةٍ عنهَا في الحقيقةِ، وإنَّما هيَ ناشئةٌ عن أسبابٍ آخرَ مناسبةٍ لها- وذكر دليلهُ مِن حيث المعنى-.

ثمَّ قال: فإذًا لا سببَ مشروعٌ إلَّا وفيهِ مصلحةٌ لأجلِها شُرعَ، فإن رأيتَهُ وقد انبَنى عليهِ مفسدةٌ، فاعلمْ أنَّها ليست بِناشئةٍ عن السَّببِ المشروعِ… قال: وبيانُ ذلكَ أنَّ الأمر بالمعروفِ والنهيَ عن الـمُنكرِ- مثلًا-، لم يَقصدْ به الشارعُ إتلافُ نفسٍ ولا مالٍ، وإنَّما هو أمرٌ يتبعُ السَّببَ المشروعَ، لرَفعِ الحقِّ، وإخمادِ الباطلِ، كالجهَادِ ليسَ مقصُودُهُ إتلافُ النُّفوسِ، بل إعلاءُ الكلمةِ، لكنْ يتبَعُهُ في الطَّريقِ الإتلافُ، مِن جهةِ نصبِ الإنسانُ نفسَهُ في محلِّ يقتضِي تنَازعَ الفريقينِ…. اهـ

فالافتراقُ والاختلافُ الواقعُ عندَ تَوضِيحِ الحقِّ، وبيانِ حُكمِ الله في حقِّ الأشخاصِ، والفِرقِ، والمـَناهجِ، ليسَ بناشئٍ عمَّا أمرَ الله به مِنَ النُّصحِ، وتوضيحِ الخطإِ، أو بيانِ سبيلِ الـمُجرمين، لأنَّ الله لا يأمرُ إلا بِما هو سببٌ للمصالح، كما قال الـمُحقِّقُ أبو إسحاقَ الشَّاطبيُّ في “الموافقات” (1/ 375): “فلا يصحُّ أن تُشرعَ للمفاسدِ، لأنَّ السمعَ يأبَى ذلك، فقد ثبت الدَّليلُ الشرعيُّ على أنَّ الشَّريعةَ إنَّما جيءَ بالأوامرِ فيها، جلبًا للمصالحِ”. اهـ

وإنَّما ينشئُ ذلكَ عن تَمادي الـمُخطئِ في باطلِهِ، وإعراضِهِ عنِ النُّصحِ والحقِّ، ونصبِ الـمُعاداةِ لمن نصحَ ووضَّحَ الحقَّ، فإليهِ تُنسبُ الفُرقةُ والفتنةُ، وإليهِ تضافُ التَّبعاتُ، لأنَّهُ خرجَ عن السَّبيلِ، وضلَّ الطَّريقَ.

وأمَّا الـمُحقُّ فإنَّما فعل ما أمرَهُ الله به، فلا لومَ عليهِ ولا عتْبَ، لا كما ظنَّهُ صاحبُ “الإبانة”- أصلحهُ الله-، وغيرُهُ ممن لا عنايةَ لهم بضبطِ المسائل العمليَّةِ، والقواعدِ الشَّرعيَّةِ، أو ممَّن تضيقُ نفوسُهم- ذرعًا- بالتزامِ الأصولِ السَّلفيَّةِ، وتطبيقِ القواعدِ الشَّرعيَّةِ، وهم كثيرٌ- لا كثَّرهمُ الله-، لكِن تَبدوا دلائِلُ هذهَ الآفاتِ فيهم على صَفحاتِ الأوجُهِ، وطَوالعِ الأَنظارِ، وفَلتاتِ الألسنةِ، عندَ نقدِ الأخطاءِ والزَّلاتِ، والتَّحذيرِ مِن جناياتِ المخالفِ على الحقِّ وأهلِهِ، ومَن تبصَّرَ ورضيَ بصَّرهُ الله وأرضَاهُ، ومَن تَعامَى وتجاهلَ، واتَّبعَ هواهُ، ضلَّ وتخبَّطَ، وأسخطَ مولاهُ، وحسبُنا اللهُ ونعم والوكيل”. اهـ

فالذي يَتحمَّل تبعات تبديع الشَّيخ بكرٍ رحمه الله، ليس الشَّيخ ربيعٌ ومَن معه مِن أهل العلم، فهم بيَّنوا بأنَّها زلَّة عالمٍ، وإنَّما يَتحمَّل ذلك الغلاة الذين لم يتأنُّوا في الحُكم. والعتب على الشَّيخ بكرٍ في إثارة هذه المسألة؛ لأنَّ المستفيدين منها هُم أهل البدع، ويبدو أنَّه أحسَّ بخطئه عندما هرعوا لتوزيع الخطاب، فلم يرضى بذلك، وهذا مِن باب حُسن الظَّن به على ما قدَّم للإسلام والمسلمين، والله حسيبه. كما ينبغي مراعاة أنَّ مَن أظهر الدِّفاع عن أهل البدع بعد نصحه وقيام الحُجَّة عليه، فإنَّ رجَع وإلَّا ألحِق بهم ولا كرامةً.

4ـ قوله: “فقوله حفظه الله تعالى ـ يقصد الشَّيخ يحيى ـ يُدافع عن سيِّد قطبٍ أظنُّ أنَّه مشتقٌّ ممَّا أثاره الشَّيخ  ربيعٌ”.اهـ  

هذه منزلة الشَّيخ يحيى عنده، سمِع النَّاس يقولون شيئًا فقاله، ومع ذلك يدَّعي تعظيمه، ولا شكَّ أن تعظيمه عنده منافٍ للتَّعظيم الشَّرعيِّ، حيث أنَّه يصل  إلى حدِّ التَّقليد. وهذا يُذكِّرني بصنيع غلاة الصوفية، غلوا في النَّبي صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم حتَّى وصفوه بملك الأفلاك، ثُمَّ جفوا فيه حتَّى وصفوه بجرثومة، والعياذ بالله. والشَّيخ يحيى كان في ذلك الوقت كنارٍ على علمٍ، في التَّمسك بأصول السَّلف، والنِّفاح عنها وردِّ الأخطاء والبعد عن التَّقليد، فكيف يتابع ظالمًا على ظلمه.

5ـ قوله: “لأنَّ ما انتقده الشَّيخ مقبلٌ رحمه الله تعالى هو كتاب “تصنيف النَّاس” فقط ، ورَغم ذلك فمن قرأ الكتاب وتأمَّله جيِّدًا يجد الشَّيخ بكرًا لا يقصد بكلامه إلَّا أولئك الذين عظُمت فتنتهم وتجرُّؤهم على أعراض السَّلفيين يخبطون فيها خبط عشواءٍ، وأدخلوهم في حروبٍ طاحنةٍ”. اهـ 

قلت: سبحان الله!، هؤلاء الجهابذة على علمهم وإخلاصهم ـ والله حسيبهم ـ لم يعرفوا مقصد المؤلِّف مِنَ الكتاب، وعرفه هذا الكذَّاب. وذلك أنَّ هؤلاء العلماء طبَّقوا القواعد الشَّرعية، وهو طبَّق خُبثه وجهله؛ لأنَّ المعلوم في هاته المسائل هو الحُكم بالظَّاهر. 

قال الشَّيخ سعيدٌ رحمه الله في “تنزيه السَّلفية” (ص40): “وهذا منهجٌ مخالفٌ لقاعدة الشَّرع، والأصل الأصيل في الإسلام، وجوبُ الأخذ بالظَّاهر وامتناع تأويلِ كلام غير المعصوم، لأنَّه أعني: غير المعصوم مظنَّةُ الانحراف والضَّلال، ولا تؤمنُ فتنته وتغيُّرهُ، وافتئاتٌ على هذا الحُكم الشَّرعيِّ الواقعيِّ.

قال الشَّيخُ علاءُ الدِّين، عليُّ بن إسماعيل القونويُّ كما ذكره العلَّامة البِقاعيُّ في “مصرع التَّصوُّف” (2/ 66): إنَّما نؤوِّلُ كلام مَن ثبتت عصمتُهُ، حتَّى نَجمع بين كلاميه، لعدم جواز الخطإ عليه، وأمَّا مَن لم تثبتْ عصمتُه، فجائزٌ عليه الخطأ، والمعصية، والكفر، فنؤاخذه بظاهر كلامه، ولا يُقبل منه ما أوَّلَ كلامه عليه، ممَّا لا يحتمله، أو ما يخالف الظَّاهر وهذا هو الحقُّ. اهـ

قال العراقيُّ، كما في “مصرع التَّصوُّف” (134): وهذا ممَّا لا نعلمُ فيه خلافًا بين العلماء بعلوم الشَّريعة المطهَّرة. اهـ

قال العلَّامة الشوكانيُّ في “الصَّوارم الحداد”، كما في “الفتح الرَّبانيِّ” (2/ 1000): وقد أجمع المسلمون أنَّه لا يؤوَّلُ إلَّا كلامُ المعصوم”. اهـ

ومع ذلك فمقدِّمة الكتاب صريحةٌ في إنكار تصنيف الفرق البدعية، كما تقدَّم مِن كلام الشَّيخ زيدٍ رحمه الله، وأنَّ تأليف الكتاب له ملابساتٌ، وتزامن مع توزيع خطاب المؤلِّف في الدفاع عن سيِّد قطبٍ. ومهما يكن فالكتاب حوى أصولًا بدعيةً؛ وجب إنكارها بغضِّ النَّظر عن مقصد صاحبها، لأنَّ المقصد يتعلَّق بصاحبه، فإن قصَد خيرًا فالمصيبة أخفُّ، وهو الظَّن به، وإن قصَد غير ذلك فالمصيبة أعظم، وعلى العموم فالمقصد أمره إلى الله. والإنكار يتعلق بالعموم، ففيه خيرٌ للمؤلِّف، ولغيره مِنَ المسلمين، ولا يترَك وإن علم حسن المقصد والله الموفِّق. 

وإلى الآن ما زال هذا المسكين يتمسَّك بأصول هذا الكتاب؛ ليدافع به عن أناسٍ. وهنا نكتةٌ لطيفةٌ ينبغي إظهارها وهي: أنَّه لو كان هؤلاء النَّاس مِن أهل السُّنَّة، فهم ليسوا بحاجة لهذا الكتاب للدِّفاع عنهم، ولو كانوا غير ذلك فهو نوع مشاكلةٍ بين أصولهم وأصول هذا الكتاب، أحلاها مُرٌّ وأدناها شَرٌّ. كتابٌ حذَّر منه أهل العلم، وقالوا: لا فائدة فائدة فيه، يتحدَّاهم هذا الجاهل بزعمه أنَّ فيه دُررًا، لم يطَّلع عليها غيره؛ فكفى  بهذا الكلام فريةً، والله المستعان.

والكتابُ كتابَ ضلالٍ وغيٍّ، لا شكَّ في ذلك. كتَبت هاته الكلمات مستحضرًا قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحجِّ: 8]. ودفاع الله عن الذين آمنوا يكون بالنَّصر والتَّأييد، وكذا تسخير مَن يدافع عنهم، جعلني الله وإيَّاكم ممَن يسخِّره للدِّفاع عن عباده المؤمنين. 

وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه، والحمد لله ربِّ العالمين.
       تمَّ الفراغ منه ليلة الثلاثاء 12 جمادى الأولى 1444 هجريًّ
               كتبه أبو عبد الله إبراهيم بن خالدٍ التِّبسيُّ الجزائريُّ
                            في الرَّباح وادي سوف



 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد (ج34ـ 20694) ط/ مؤسَّسة الرسالة، واللَّفظ له، وابن ماجة (ج1ـ 2118) ط/ دار إحياء الكُتب العربية، وابن أبي عاصمٍ في “الآحاد والمثاني” (ج5ـ 2743) ط/ دار الراية بالرِّياض، مِن طريق حمَّاد بن سلمة، وأبي عوانة، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن ربعيِّ بن حراشٍ، عن الطُّفيل رضي الله عنه به. وخالفهما سفيان بن عيينة عند أحمد (ج38ـ 23339)، وابن ماجة (ج1ـ 2118)، فرواه عن عبد الملك بن عميرٍ، عن ربعيِّ بن حراشٍ، عن حذيفة رضي الله عنه. ورجَّح البخاريُّ طريق الطُّفيل كما ذكَر محقِّقوا المُسند (ج38 ص364)، وهو حديثٌ حسنٌ والله تعالى أعلم.

2 حديثٌ صحيحٌ لغيره رواه أبو داود والتِّرمذيُّ وغيرهما، وهو مُخرَّجٌ في “ضوابط الحكم بالابتداع” (ص6) نُسختي. والشَّطر الأخير منه، أخرجه التِّرمذيُّ وضعَّفه؛ لأنَّ في إسناده: عبد الرَّحمن بن زيَّادٍ الإفريقي وهو ضعيفٌ. وأخرجه الآجريُّ في “الشَّريعة” (ج1ـ 111) ط/ دار الوطن بالرِّياض، وفي إسناده: كثير بن مروان، وعبد الله بن يزيدٍ شديدا الضَّعف.

3 المائدة: 32

بيان وهن حديث شرب كشرب اللبن

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واهب النَّعم، وصلَّى الله على نبيَّه الذي أوتي جوامع الكلم، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
أمَّا بعدُ
فقد وضَع أحدهم منشورًا في المسجد العتيق لحي البغازلية بالرَّباح، يحوي حديثًا حسَّنه الشَّيخ الألبانيُّ رحمه الله. ألا وهو حديث عقبة بن عامرٍ مرفوعًا: (يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَشْرَبُونَ الْقُرْآنَ كَشُرْبِهِمُ اللَّبَنَ). فقرَّرت دراسته؛ لما أعلم مِن عدم تحرِّي العَّامة للصَّحة، وحتَّى إن وقع التَّحري، فقد يكون أخَذ بالحديث تقليدًا لمن يُحسن الظَّن به.
فأقول بالله مستعينًا: الحديث أخرجه الرُّويانيُّ في “مسنده” (ج1ـ 249) ط/ مؤسَّسة قرطبة بالقاهرة، واللَّفظ له. وأخرجه الطَّبرانيُّ في “الكبير” (ج17ـ 821) ط/ مكتبة ابن تيمية بالقاهرة، والجمالي الحنفيُّ في “مسند عُقبة بن عامرٍ” (ج1ـ 208). قال الهيثميُّ في “مجمع الزَّوائد” (ج6 ص229) ط/ مكتبة القدسيٍّ بالقاهرة: “رواه الطَّبرانيُّ، ورجاله ثقاتٌ”. اهـ وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ مدار الحديث على بكر بن عمرٍو المِصريِّ، ضعيفٌ يصلح في الشَّواهد والمُتابعات، كما يستفاد مِن كلام الدَّار قطنيِّ وأبي حاتمٍ الرَّازيِّ رحمهما الله. يرويه عن شُعيب بن زُرعة، عن عُقبة بن عامرٍ رضي الله عنه كما عند الرُّويانيِّ، وشعيبٌ روى عنه جمعٌ، وذكره ابن حِبَّان في”الثِّقات”؛ فمثله يُحسَّن حديثه. ويرويه ـ أيضًا ـ عن مِشرح بن هاعان، عن عقبة كما عند الطَّبرانيِّ والجماليِّ، وهو مختلفٌ فيه، والرَّاجح الضَّعف، وقد تُوبع بشعيبٍ.
وجاء بلفظ الماء بدل اللَّبن، أخرجه الفِريابيُّ في “فضائل القرآن” (ج1ـ 109) ط/ مكتبة الرشد بالرِّياض، والمُستغفريُّ  في “فضائل القرآن” (ج1ـ 8ط/ دار ابن حزمٍ، قال الشَّيخ الألبانيُّ رحمه الله في “الصَّحيحة” (ج4 ص507) ط/ مكتبة المعارف بالرِّياض، بعد أن أورده مِن طريق الفِريابيِّ: “وهذا إسنادٌ حسنٌ، رجاله كُلُّهم ثقاتٌ، رجال الشَّيخين غير مِشرح بن هاعان، قال ابن مَعينٍ: “ثقةٌ” وقال ابن عَديِّ: “أرجو أنَّه لا بأس”. وتناقض فيه ابن حِبَّان فأورده في “الثِّقات” ثُمَّ أورده في “الضُّعفاء” ! فهو حَسن الحديث”. اهـ وفي إسناده: مَيمون بن الأصبغ مجهول حالٍ، روى له النَّسائيُّ، وتابعه هاشم بن يونس القصَّار عند المُستغفريِّ، وهو مجهول حالٍ أيضًا، وقد خولفا في اللَّفظ مِن طرف يحيى بن أيُّوب العلَّاف عند الطَّبرانيِّ والجماليِّ، ومحمَّد بن إسحاق الصَّاغانيِّ عند الرُّويانيِّ، وهما أوثق منهما. ونافع بن يزيدٍ المِصريُّ أخرج له البُخاريُّ تعليقًا، وبكر بن عمرٍو المَعافريُّ تقدَّم الكلام فيه، أخرج له البُخاريُّ  حديثًا واحدًا في الشَّواهد، وقد أخطأ صاحبا “تحرير تقريب التَّهذيب” حينما عداه في المُتابعات؛ لأنَّ المتابعة تكون في السَّند، والشَّاهد يكون في المتن كما في هذا الحديث (1). ومِشرح ضعيفٌ في الحِفظ، وكلام ابن عديٍّ فيه لا يقتضي تعديلًا، وأمَّا ابن حِبَّان فالعُمدة على ما في كتاب”الضُّعفاء” ومِمن ضعَّفه ـ أيضًا ـ الدَّارميُّ رحمه الله حيث قال: “ليس بذاك وهو صدوقٌ”. اهـ يعني لا يَتعمَّد الكذب، كما هي عبارة ابن عديٍّ وقال الحافظ في “التًّقريب” (6679 ص753) ط/ مؤسَّسة الرِّسالة: ” مقبولٌ”. اهـ يعني في الشَّواهد والمُتابعات. وبالتَّالي يتَّضح أنَّ في عبارة الشَّيخ الألبانيِّ رحمه الله توسُّعًا غير مَرضيٍّ.
وفي هذا المِضمار، وقَفت على كلامٍ لعبد الله بن فهدٍ الخليفيِّ في مُدوَّنته، رجَّح فيه طريق مِشرح بن هاعان؛ لرواية الأكثر لها على حدِّ زعمه. لكن فاته أنَّ طريق شعيب بن زُرعة التي أخرجها الرُّويانيُّ قوِّية لذاتها؛ لأنَّها مِن رواية جبل الحِفط محمَّد بن إسحاق الصَّغانيِّ. ورواية غيره تتقوَّى لغيرها، والذي يَظهر هو تكافؤ الطُّرق، لكن تبقى المخالفة في اللَّفظ فقط . والصَّحيح أنَّ في هذا الحديث لبكر بن عمرٍو شيخان، والله تعالى أعلم.
والحديث وإن كان ضعيفًا، لكنَّ معناه صحيحٌ، لوجود هاته الفئة في أمَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وعلى أله وسلَّم، وقد ألَّف علماؤنا في بدع القُرَّاء.
ختامًا أحمد الله على نِعمة الإسلام والسُّنَّة، ونِعمة دراسة حديث نبيِّه الكريم، عليه وعلى آله أزكى الصَّلاة وأفضل التَّسليم. وتمييز ما صحَّ منه من السَّقيم، فهو الهادي وحده إلى الصِّراط المستقيم، والحمد لله أوَّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا.
                                      كتبه أبو عبد الله إبراهيم بن خالدٍ التِّبسيُّ الجزائريُّ
                                     تمَّ الفراغ منه صبيحة الجمعة 3 ربيعٍ الثَّانيِّ 1444 هِجريٍّ
                                                      في الرَّباح وادي سوف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر صحيح البُخاريِّ ـ فتحٌ ـ (ج8ـ 4514 ـ 4650) ط/ دار الفيحاء

خبر وفاة صهري رحمه الله

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمد لله خالق الحياة والموت؛ لغرض ابتلاء الخلق. وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعدُ

فقد توُّفي صهري العربيِّ بن العايش لعبيدي بمنزله في حي 1 نوفمبر بالبياضة ولاية الوادي، ليلة الجمعة 18 جمادى الآخرة 1443 هجريٍّ. وبهذا الخطب العظيم، أسأل الله العظيم أن يرحمه ويَغفر له، وأن يصبِّر ذويه. والحقُّ يقال أنَّ هذا الرَّجل له مِنَ الأفضال عليَّ الشَّيء الكثير، وهذا مِن باب شُكر النَّاس الذي هو شكرٌ لله عزَّ وجلَّ. كما أخبَر بذلك نبيِّنا صلَّى الله عليه وعلى آله سلَّم، فأسأله سبحانه أن يُجزل له المثوبة، كما أحثُّ إخواني على الدُّعاء له بالرحمة والمغفرة، إنَّ ربِّي قريبٌ سميع الدُّعاء، والحمد لله أولَّا و آخرًا. 

الاستدلال على مشروعية الصلاة في النعال

  بسم الله الرَّحمن الرَّحيم 

الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأشمِّ، وعلى آله وصحبه وسلَّم.أمَّا بَعْدُفقد اشتدَّ نكير أكثرية العامَّة على مَن يُصلي في نعله، مِنَ أهل السُّنَّة والجماعة. وقدوتهم في ذلك جهَّالٌ، لا علم لهم بسنن رسول الله صلَّى عليه وعلى آله وسلَّم، ولا بأحواله وأيَّامه. وكيف يَخفى هذا الأمر؟!، ـ أقصد الصَّلاة في النِّعال ـ وقد جعِل شعارًا لمخالفة اليهود. لكن لبعد عهد النُّبوة، واستفحال الجهل والمحدثات، يُتوقَّع مِثل هذا، والله المستعان.لذا رأيت؛ أن أَجمع ما يسَّر الله تعالى لي في هذه المسألة، رجاء الثَّواب منه عزَّ وجلَّ، ونفْع المسلمين، فهو المطَّلع سبحانه، وهو حسبي ونعم الوكيل. فأقول به مستعينًا.

مخالفة الكفَّار والمشركين مطلبٌ شرعيٌ

ويتَّضح ذلك مِن عدَّة نصوصٍ منها:

ما جاء عن ابن عمر عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ(1).

وما رواه أبوهريرة رضي الله عنه قال: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ)(2).

وما جاء عن عمرو بن ميمونٍ قال: شَهِدْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفَهُمْ ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ(3).

وما رواه عمرو بن العاص أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ )(4).

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في “اقتضاء الصِّراط المستقيم” (ص16-17) ط/ دار الفكر: “وقد بعَث الله عبده ورسوله محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بالحكمة التي هي سنَّته، وهي الشِّرعة والمنهاج الذي شرعه له. فكان مِنَ هذه الحكمة: أن شرع له مِنَ الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم، والضَّالين. وأمَر بمخالفتهم في الهدي الظَّاهر، وإن لم يَظهر لكثيرٍ مِنَ الخلق في ذلك مفسدةٌ، لأمورٍ منها: أنَّ المشاركة في الهدي الظَّاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال. وهذا أمرٌ محسوسٌ. فإنَّ اللَّابس لثياب أهل العلم ـ مثلًا ـ يجد مِن نفسه نوع انضمامٍ إليهم واللَّابس لثياب الجند المقاتلة ـ مثلًا ـ يجد في نفسه نوع تخلُّقٍ بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيا لذلك، إلَّا أن يمنعه مِن ذلك مانعٌ.ومنها: أنَّ المخالفة في الهدي الظَّاهر توجب مباينةً، ومفارقةً توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضَّلال، والانعطاف إلى أهل الهُدى والرضوان تحقِّق ما قَطع الله مِنَ الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلَّما كان القلب أتَمَّ حياةِ، وأعرفَ بالإسلام الذي هو الإسلام ـ لست أعني مجرَّد التَّوسُّم به ظاهرًا أو باطنًا بمجرَّد الاعتقادات التقليدية، مِن حيث الجملة ـ كان إحساسهُ بمفارقة اليهود والنَّصارى باطنًا أو ظاهرًا أتَمَّ، وبُعدُه عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشدُّ.ومنها: أنَّ مشاركتهم في الهَدي الظَّاهر توجب الاختلاط الظَّاهر، حتَّى يرتفع التَّمييز ظاهرًا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضَّالين إلى غير ذلك مِنَ الأسباب الحكمية.هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظَّاهر إلَّا مباحًا محضًا، لو تجرَّد عن مشابهتهم. فأمَّا إن كان مِن موجبات كفرهم فإنَّه يكون شعبةٌ مِن شُعب الكفر فموافقتهم فيه موافقةٌ في نوعٍ مِنَ أنواع ضلالهم ومعاصيهم.فهذا أصلٌ ينبغي أن يُتفطَّن له. والله أعلم”. اهـ

أدلَّة مشروعيَّة الصَّلاة في النِّعال والخِفاف

ثبَت ذلك مِن فعل النَّبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، ومِن فعله، كما بيَّنته الأحاديث الآتي ذكرها:

فعن أبي مسلمة سعيد بن يزيد الأزديِّ قال: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ(5).

قال النَّوويُّ رحمه الله في”شرح صحيح مسلمٍ”(ج5ص49): “فيه جوازُ الصَّلاة في النِّعال والخِفَافِ ما لم يتحقَّق عليها نجاسةٌ، ولو أصاب أسفلَ الخفِّ نجاسةٌ ومَسَحَه على الأرض، فهل تصحُّ صلاته؟ فيه: خلافٌ للعلماء، وفيه: قولان للشَّافعيِّ رضي الله عنه الأصحُّ: لا تصحُّ”. اهـ 

والصَّحيح صحَّة الصَّلاة بعد المسح؛ لحديث أبي سعيدٍ الخذريِّ وسيأتي.

وعن يعلى بن شدَّاد بن أوسٍ، عن أبيه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَالِفُوا الْيَهُودَ فإِنّهُمْ لا يُصَلُّونَ في نِعَالِهِمْ، وَلاَ خِفَافِهِمْ)(6).

قال الحافظ رحمه في “الفتح”(ج1ص64) ردَّا على مَن جعَل ذلك مِنَ الرُّخص قلت : “قد روى أبو داود والحاكم مِن حديث شدَّاد بن أوسٍ مرفوعًا (خالفوا اليهود فإنَّهم لا يصلُّون في نعالهم، ولا خفافهم) فيكون استحباب ذلك مِن جهة قصد المخالفة المذكورة. وورد في كون الصَّلاةِ في النِّعال مِنَ الزِّينة المأمور بأخذها في الآية حديثٌ ضعيفٌ جدًّا أورده ابن عديٍِّ في الكامل وابن مردويه في تفسيره مِن حديث أبي هريرة، والعقيلي مِن حديث أنسٍ“. اهـ 

وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ)، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا ـ أَوْ قَالَ: أَذًى ـ وَقَالَ: (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا)(7).

وعن همَّام بن الحارث قال: رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، فَسُئِلَ فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ مِثْلَ هَذَا. قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ، لِأَنَّ جَرِيرًا كَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ(8)

وعن المغيرة بن شعبة قال: كُنْتُ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ، فقالَ: (يَا مُغِيرَةُ خُذِ الإداوَةَ) فأخَذْتُها، ثُمَّ خَرَجْتُ معهُ، فانْطَلَقَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حتَّى تَوارَى عَنِّي، فَقَضَى حاجَتَهُ، ثُمَّ جاءَ وعليه جُبَّةٌ شامِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الكُمَّيْنِ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَهُ مِن كُمِّها، فَضاقَتْ عليه، فأخْرَجَ يَدَهُ مِن أسْفَلِها، فَصَبَبْتُ عليه فَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ مَسَحَ علَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى(9).

وبوَّب عليهما البخاريُّ رحمه الله في “صحيحه” بباب الصَّلاة في الخفاف.

وهذا الحُكم فيما إذا كان المسجد غير مفروشٍ، فإن كان مفروشًا يُترك الإتيان بهذه السُّنَّة اجتنابًا للمفسدة الحاصلة، وبهذا أفتى أهل العلم حفظهم الله. 

قال الشَّيخ ابن بازٍ رحمه الله: “لكن اليوم بعدما فرِشت المساجد وصار فيها فرشٌ ثمينةٌ وأقلُّ شيءٍ يؤثِّر فيها، وربَّما نفر النَّاس مِنَ الصَّلاة عليها وأداء الجماعة فينبغي للمؤمن أن لا ينفِّر النَّاس بل يكون عونًا لهم على أداء الجماعة ويَحفظ نعليه في مكانٍ آخر(10). اهـ

ذِكر بعض الأدلَّة على ترك السُّنَّة خشية ما يترتَّب عليها مِنَ المفسدة

قال الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} الأية [الأنعام: 108].

قال ابن كثيرٍ رحمه الله في “تفسيره” (ج3 ص206) ط/ دار ابن الجوزيِّ: “يقول تعالى ناهيًا لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم والمؤمنين عن سبِّ آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحةٌ، إلَّا أنَّه يترتَّب عليه مفسدةٌ أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبِّ إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلَّا هو”. اهـ

وعن عمرِو بن دينارٍ أنَّه سمع جابرًا رضي الله عنه قال: غَزَوْنَا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حتَّى كَثُرُوا، وكانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أنْصَارِيًّا، فَغَضِبَ الأنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حتَّى تَدَاعَوْا، وقالَ الأنْصَارِيُّ: يا لَلْأَنْصَارِ، وقالَ المُهَاجِرِيُّ: يا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَخَرَجَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: ما بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ؟ ثُمَّ قالَ: ما شَأْنُهُمْ؟ فَأُخْبِرَ بكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأنْصَارِيَّ. قالَ: فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (دَعُوهَا فإنَّهَا خَبِيثَةٌ). وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ: أقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا؟ لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ. فَقالَ عُمَرُ: ألَا نَقْتُلُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هذا الخَبِيثَ؟ لِعَبْدِ اللَّهِ. فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّه كَانَ يَقْتُلُ أصْحَابَهُ)(11).

قال النَّوويُّ رحمه الله في”شرح صحيح مسلمٍ”(ج16ص148): “… وفيه تَرك بعض الأمور المختارة والصَّبر على بعض المفاسد خوفًا مِنَ أن تترتَّب علي ذلك مفسدةٌ أعظم منه”. اهـ

وعن عائشة قالت: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(لَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بالكُفْرِ، لَنَقَضْتُ الكَعْبَةَ، ولَجَعَلْتُها عَلَى أَسَاسِ إِبْراهِيمَ، فَإِنَّ قُرَيْشًا، حِينَ بَنَتِ البَيْتَ، اسْتَقْصَرَتْ، ولَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا)(12).

قال النَّوويُّ رحمه الله في”شرح صحيح مسلمٍ”(ج9ص98-99): “وفي هذا الحديث: دليلٌ لقواعد مِنَ الأحكام منها : إذا تعارضت المصالحُ أو تعارضت مصلحةٌ ومفسدةٌ وتعذَّر الجمعُ بين فِعلِ المصلحة وتركِ المفسدة بُدئ بالأهمِّ؛ لأنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أخبَر أنَّ نقض الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه مِن قواعد إبراهيم صلَّى الله عليه وسلَّم مصلحةٌ، ولكن تُعارضه مفسدةٌ أعظم منه، وهي خوفُ فتنة بعض مَنَ أسلم قريبًا، وذلك لِمَا كانوا يعتقدونه مِن فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا، فتركها صلَّى الله عليه وسلَّم. ومنها فِكْرُ وليُّ الأمر في مصالح رعيَّته، واجتنابه ما يخاف منه تولُّد ضررٍ عليهم في دينٍ أو دنيا إلَّا الأمور الشَّرعيَّة، كأخذ الزَّكاةِ وإقامة الحدودِ ونحوِ ذلك”. اهـ

وقال الحافظ رحمه في “الفتح”(ج3ص566): “وفيه اجتناب وليُّ الأمر ما يتسرَّع النَّاس إلى إنكاره وما يُخشى منه تولُّد الضَّرر عليهم في دينٍ أو دنيا، وتألُّف قلوبهم بما لا يترَك فيه أمرٌ واجبٌ‏.‏ وفيه تقديم الأهمِّ فالأهمِّ مِن دفع المفسدة وجَلب المصلحة، وأنَّهما إذا تعارضا بُدئ بدفع المفسدة، وأنَّ المفسدة إذا أمِن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة”. اهـ

وهذا في حقِّ وُلَّاة الأمور، فما بالك بآحاد النَّاس، ممَن يُقدم على أفعالٍ مفسدتها أكبر مِن مصلحتها؟!. وبما أنَّ إزالة الأفرشة مِنَ المساجد، أو الصَّلاة عليها بالنِّعال متعذِّرٌ وينتج عنه مفسدةٌ أكبر، ترِك فِعلها والله المستعان.

شبهات المانعين والردُّ عليها

ـ يتحجَّج المانعون باتِّساخ الأحذية، ولو مِن غير نجاسةٍ نصَّ الشَّارع عليها، جريًا على قاعدتهم في عدم التَّفريق بين النَّجاسات والأوساخ التي ليست بنجاسةٍ شرعًا. فهذه يجوز الصَّلاة فيها، بشرط أن لا تكون فيها رائحةٌ مؤذيةٌ، فإن كان فيها تعيَّن المنع خاصَّةً في صلاة الجماعة.
ـ الحكم بنجاسة النَّعل أو الخفِّ ولو بالظَّنِّ، خلافًا للقاعدة الشَّرعيَّة: الأصل في الأعيان الطَّهارة، حتَّى يأتي ناقلٌ. فإن تيقَّن بوجود نجاسةٍ قام بمسحها وصلَّى في نعليه؛ كما دلَّ على ذلك حديث أبي سعيدٍ السَّالف ذكره.
ـ دعواهم أنَّ المنتعِل يَدخل بحذائه إلى الخلاء، والجواب عن ذلك مِن وجهين. أوَّلها: أنَّ ذلك كان يَحدث على عهد النَّبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، ولم يكن مانعًا مِن الصَّلاة بالنِّعال؛ لأنَّ الوحي يَنزل ولو كان ذلك ممنوعًا لبيَّنه. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[مريم: 64].

وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: “كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ”(13).

ثانيها: أنَّ ما يُخشى مِن مرور الحذاء فوق النَّجاسة الرَّطبة، قد جاء في الشَّرع ما يطهِّره، كما تقدَّ م في حديث أبي سعيدٍ. وأمَّا النَّجاسة الصَّلبة فقد جاء أيضًا ما يطهِّرها،عن أمِّ ولدٍ لعبد الرحمن بن عوفٍ قالت: قُلْتُ لِأُمِّ سَلَمَةَ إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ)(14).

وكما هو ملاحظٌ، فإنَّ كُلَّ شبهات القوم مردُّها إلى الجهل والوسواس. جهلٌ بالنُّصوص الشَّرعيَّة الثَّابتة في هذه المسألة، وتنزيلٌ لنصوصٍ شرعيَّةٍ أخرى تحثُّ على الطَّهارة في غير محلِّها. فوقعوا في التَّفريط والإفراط؛ فالحمد لله الذي هدانا لما اختلف فيه مِنَ الحقِّ بإذنه، إنَّه يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ. جعلني الله وإياكم ممَن يتمسَّك بكتابه، وسنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم. فهو وحده القادر على ذلك، وهو حسبي ونعم الوكيل، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات.                 

                   تمَّ الفراغ منها صبيحة الجمعة 11 جمادى الآخرة سنة 1443 هجريٍّ                       

                               كتبه أبو عبد الله إبراهيم بن خالدٍ التِّبسيُّ الجزائريُّ                       

                                          في الرَّباح وادي سوف       



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج10-5892) ط/ دار الفيحاء، واللَّفظ له، ومسلمٌ- نوويٌّ- (ج3-259-54) ط/ دار الفيحاء. وأخرجه مسلمٌ- نوويٌّ- (ج3-260)، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعنده المجوس بدل المشركين.

أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج6-3462)، و(ج10-5899)، ومسلمٌ- نوويٌّ- (جَ14-1032).

أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج3-1684)، و(ج7-3838)، وأخرجه أحمد (ج1-275-295-385ط/ دار الرِّسالة، وابن ماجة (ج2-3022) ط/ إحياء الكتب العربيَّة، وزادا (كَيْمَا نُغِيرُ)، وهي مِن طريق أبي إسحاق السَّبيعيِّ لم يصرِّح بالتَّحديث كما صرَّح في صحيح البخاريِّ. و لها شاهدٌ في “مسند الشافعيِّ”(ج1-917-919) بترتيب السِّنديِّ، مِن مرسل طاووس وهو صحيحٌ، ومِن مرسل محمَّد بن قيس بن مخرمة، لكن فيه: مسلم بن خالدٍ ضعيفٌ، وابن جريجٍ مدلِّسٌ وقد عنعن.

أخرجه مسلمٌ- نوويٌّ- (ج7-1096).

أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج1-386)، و(ج10-5850)، وهذا لفظه، ومسلمٌ- نوويٌّ- (ج5-555).

أخرجه أبو داود (ج1-652) ط/ المكتبة العصريَّة، والدُّولابيُّ في”الكنى والأسماء” (ج1-731) ط/ دار ابن حزم بيروت، واللَّفظ لهما، ومِن طريق أبي داود البغويُّ (ج1-652) ط/ المكتب الإسلاميِّ، و في إسناده: عمر بن عبد العزيز الفاشانيُّ مجهول عينٍ، والبزَّار (ج8-3480)، وقال: “وهذا الحديث لا نعلمه يروَى عن شدَّاد بن أوسٍ إلَّا مِن هذا الوجه بهذا الإسناد”. اهـ  وفي إسناده: أحمد بن أبانٍ القرشي ُّ مجهول حالٍ؛ لكنَّه متابعٌ بقتيبة بن سعيدٍ عند أبي داود والحاكم، والحسين بن حُريثٍ عند الدولابيِّ، وهشام بن عمَّارٍ عند الطبرانيِّ وأخرجه الحاكم (ج1-956) ط/ دار الكتب العلميَّة، ومِن طريقه البيهقيُّ (ج2-4257) ط/ دار الكتب العلميَّة، والطبرانيُّ في “الكبير” (ج7-7165) ط/ مكتبة ابن تيميَّة، وفي إسناده: هشام بن عمَّارٍ تغيَّر بأخرةٍ؛ لكنَّه متابعٌ بقتيبة بن سعيدٍ عند أبي داود والحاكم، وبالحسين بن حُريثٍ عند الدولابيِّ، وأحمد بن أبانٍ القرشيِّ ِّعند البزَّار وابن حبَّان. وهو مِن طريق مروان بن معاوية، عن هلا ل بن ميمونٍ الرَّمليِّ، عن يعلى بن شدَّاد بن أوسٍ عن أبيه به، وهو حسنٌ لحال هلا ل بن ميمونٍ ويعلى بن شدَّاد بن أوسٍ؛ فقد روى عنه جمعٌ، ووثَّقه ابن سعدٍ وذكره ابن حبَّان في”الثِّقات”، وليس فيه مطعنٌ. وأخرجه ابن حبَّان (ج5-2186) ط/ دار الرِّسالة، وزاد (وَالنَّصَارَى)، وهي زيادةٌ منكرةٌ؛ لمخالفة أحمد بن أبانٍ القرشيِّ لقتيبة بن سعيدٍ عند أبي داود والحاكم، والحسين بن حُريثٍ عند الدولابيِّ، وهشام بن عمَّارٍ عن الطَّبرانيٍّ، والله تعالى أعلم. وأخرجه البزَّار (ج13-7230)، مِن حديث أنس بن مالكٍ، وقال: “وهذا الحديث لا نعلمه يروَى عن أنسٍ إلَّا مِن هذا الوجه، ولا نعلم حدَّث به عمر بن نبهان، إلاَّ أبو قتيبة، وعمر بن نبهان مشهورٌ”. اهـ وفي إسناده: عمر بن نبهان العبديُّ وهو متروكٌ. 

7 أخرجه أحمد (ج18-11877)، وأبو داود (ج1-650)، ومِن طريقه البيهقيُّ في “معرفة السُّنَّن والآثار” (ج3-4889) ط/ جامعة الدِّراسات الإسلاميَّة كراتشي، ومِن غير طريقه (ج3-4890)، واللَّفظ لهما. وأخرجه الطَّيالسيُّ (ج3-2268) ط/ دار هجرٍ مصر، ومِن طريقه البيهقيُّ (ج2-4086)، وعبد بن حميدٍ في “المنتخب” (ج1-880) ط/ مكتبة السُّنَّة بالقاهرة، والدَّارميُّ (ج2-1418) ط/ دار المُغني بالسَّعودية، وهو حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ.

أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج1-387)، وهذا لفظه، ومسلمٌ- نوويٌّ- (ج3-272).

أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج1-363-388)، ومسلمٌ- نوويٌّ- (ج3-274-77)، واللَّفظ له.

10 منقولٌ مِن موقعه.

11 أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج6-3518)، و(ج8-49054907)، واللَّفظ له، ومسلمٌ- نوويٌّ- (ج16-2584-63)، وأخرجه مسلمٌ- نوويٌّ- (ج7-1063)، في قصَّة ذي الخويصرة التَّميميِّ.

12 أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج3-1583-15841585-1586)، ومسلمٌ- نوويٌّ- (ج9-1333)، وهذا لفظه.

13 أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج9-5207-52085209)، ومسلمٌ- نوويٌّ- (ج10-1440)، واللَّفظ للبخاريِّ.

14 أخرجه أحمد (ج44-26488)، وأبو داود (ج1-383)، والتِّرمذيُّ (ج1-143) ط/ دار الكتب العلميَّة، وابن ماجة (ج1-531) ،وفي إسناده: هشام بن عمَّارٍ تغيَّر بأخرةٍ؛ لكنَّه متابعٌ بجمعٍ مِن الحفَّاظ، والدَّارميُّ (ج1-769)، ومالكٌ (47) ط/ دار الفكر، وابن أبي شيبة (ج1-615) ط/ مكتبة الرُّشد بالرِّياض، والبيهقيُّ (ج2-4102)، وقال: “وروي ذلك أيضًا، عن أبي هريرة مرفوعًا وليس بالقويِّ”. اهـ وإسناده ضعيفٌ لإبهام أمِّ ولد عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه. وحديث أبي هريرة أخرجه البغويُّ (ج2-301)، وفي إسناده: عمر بن عبد العزيز الفاشانيُّ مجهول عينٍ. وله شاهدٌ أخرجه أبو داود (ج1-204)، وفي إحدى إسناديه: شريك شريك بن عبد الله القاضي ضعيفٌ؛ لكنَّه متابعٌ عنده بجرير بن عبد الحميد، وعبد الله بن إدريس، ومِن طريقه البيهقيُّ (ج1-662)، وابن ماجة (ج1-1041)، وابن أبي شيبة (ج2-7052)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. وله شاهدٌ آخر مِن حديث امرأةٍ مِن بني عبد الأشهل، أخرجه أحمد (ج45-27452-27453)، وأبو داود (ج1-384)، والبيهقيُّ (ج2-4268)، وأخرجه ابن أبي شيبة (ج1-616)، ومِن طريقه ابن ماجة (ج1-533)، والطَّبرانيُّ في الكبير (ج25-452)، وفي إسناده: شريك بن عبد الله القاضي ضعيفٌ؛ لكن تابعه زهير بن معاوية عند أحمد وأبي داود، وقيس بن الرَّبيع عند عبد الرَّزاق (ج1-105) ط/ المجلس العلميِّ بالهند، والطَّبرانيِّ في الكبير (ج25-453). بهما يصِحُّ الحديث والله تعالى أعلم.

خبر وفاة والدتي رحمها الله

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمد لله القائل في كتابه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُالْغَفُورُ} [الملك:2]. وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعدُ

فقد توُّفيت والدتي عائشة بنت السبتيِّ، رحمة الله عليهما، ليلة الخميس 19 جمادى الأولى 1443 هجريٍّ. في مستشفى بوقرَّة بولعراس ببلدية بكارية ولاية تبسة. فللَّه ما أعطى وله ما أخذ وكلُّ شيءٍ عنده بأجلٍ مسمًّى، وأسأله سبحانه أن يرزقنا الصَّبر والاحتساب. كما أسأله جلَّ قدْره أن يرزقني الاتِّعاض مِن هذا المصاب الجلل؛ لأنَّه كما يقال: كفى بالموت واعظًا، ويَرزُق جميع المسلمين الاتِّعاض بالموت فهو هادم اللَّذات كما أخبَر بذلك المعصوم صَّلى الله عليه وعلى آله وسلَّم. وأسأله تبارك وتعالى الرَّحمة والمغفرة للوالدة الكريمة؛ فهو قريبٌ مجيب الدَّعوات، كما أرجو مِن إخواني الدُّعاء لها بالرَّحمة والمغفرة.

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.

فتح الرَّبِّ العليِّ في دحر المتعصِّب الغبيِّ

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم.
أمَّا بعدُ
فبعد أن كتَب الشَّريف فرُّوج الخنشليُّ هذه العبارة: “اللَّهمَّ ثبَّتك عبدك محمَّد بن حزامٍ” وهي خطأٌ إملائيٌ، بدليل لا حق الكلام، “على الحقِّ اللَّهمَّ لا تُرِنا فيه ما يسوؤنا اللَّهمَّ اجمع كلمة السَّلفيِّين وألّف بين قلوبهم .
قولوا -بصدقٍ- آمين”. نبَّهته على ذلك، ثُمَّ تبادر إلى ذهني ما في المناسبة بين الخطإ الإملائيِّ، والخطإ المنهجيِّ فنبَّهت على ذلك أيضًا. فزيادة حرفٍ وإن كان مِن غير قصدٍ؛ نتج عنه معنًى كفريٌِّ، فكيف بمن يلوي أعناق النُّصوص، والقواعد والأصول السَّلفيَّة لنصرة مبطلٍ، فهذا يخشى عليه والله. وذلك أنَّ التَّعصب قد يؤدي إلى الكفر، كما حدث مع أبي طالبٍ عمِّ النَّبي صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم(1). مع أنَّ العبارة لا تستقيم؛ لأنَّ المقام مقام دعاءٍ بالتَّوفيق للرُّجوع عن الخطأِ، فعلى ما يثبِّته الله؟! على ما بدر منه مِن أخطاءٍ. فكتَب على صفحته في فيسبوك هذا الكلام الهزيل:
“يا لغلظة قلوبهم وحقدهم وفرحهم بالزَّلَّات! ما أعجبهم الدعاء للشَّيخ ابن حزامٍ.
راسلني بعضهم فقال معلِّقًا على الدعاء : التَّعصب يؤدي إلى الكفر. هل الدُّعاء تعصُّبٌ يؤدي إلى الكفر؟.
المؤمن يدعو للكفَّار لليهود للنَّصارى للملحدين ولغيرهم بأن يهديهم الله تعالى إلى الإسلام ويفرح إذا اهتدوا أشدَّ مِن فرحه بالماء البارد في اليوم الصَّائف . قال مَن بُعث رحمةً للعالمين عليه الصَّلاة والسلَّام: (الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ )(2).
كيف بالدُّعاء لشيخ سلفيٍّ داعٍ إلى الله قائمٌ على دعوةٍ له تصانيف وتآليف سلفيَّة، أليس أحقَّ بها وأهلها؟
أم أنَّهم ما يريدون أوبته ورجوعه إلى إخوانه لمقاصد لا تخفى على الله منها ما ظهرت قرائنه: أن يبقى لهم ـ السَّبق الصُّحُفيُّ ـ وأنَّهم ردُّوا عليه ردودًا قويَّهً أفحمته، وتحقَّق فيه ما تفرَّسوه ـ بل تمنَّوه وتلمَّسوه واشرأبَّت إليه أعناقهم ـ . هذا الصِّنف بلاءٌ على الدعوة السَّلفيَّة وعلى السَّلفيِّين. وبعض مَن أعرف واقعهم هنا مِن مضيِّعي الفرائض، غارقين في المعاصي والمخالفات لكن غرَّهم سِتر الله وحِلمه عليهم، ولن يدوم سيَّما وحالهم ما أسلفت ذكره”. اهـ
فكما هو ملاحظٌ استهلَّ هذا المعتوه كلامه بالطَّعن في النِّيات والسَّرائر، مع أنَّ أمرها إلى الله تعالى، وقد نبَّه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما، لمَّا قتَل ذلك المشرك الذي قال: لا إله إلَّا الله، بقوله: (أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا)(1). ويشهَد الله أنَّنا نُساء؛ لانحراف أصغر طالبٍ، فضلًا عن رجلٍ عاش زمنًا، يقرِّر أحكام الإسلام وينشرها.
وتعصُّب المعني لابن حزامٍ واضحٌ لا غبار عليه، فتارةً يَنتصر له بمنهج الموازنات، وتارةً يفنِّد ما ينسَب إليه جملةً وتفصيلًا. فيذكر حسناته في مقابل النَّقد، وأنَّه شيخٌ سلفيٌّ داعٍ إلى الله قائمٌ على دعوةٍ له تصانيف وتآليف سلفيَّةٌ، وأنَّه خدَم الإسلام والسُّنَّة، وأنَّه على ثغرٍ مِنَ الثُّغور، وإلى غيرذلك. ويردُّ الأخبار الثَّابتة عنه؛ بحجَّة أنَّها تُنشر في مواقع التَّواصل. وهذا الكلام في الحقيقة حجَّةٌ عليه؛ لأنَّه يعتمِد هذه المواقع في النَّشر. وإلى غير ذلك مِن هذه الأساليب الحزبيَّة، التي لا يخفى عوارها عن صغار طلبة العلم. وقد أخرَج منشورًا، يتبرَّأ فيه مِنَ أخطاء ابن حزامٍ، وهو ماضٍ في ذكر حسناته، شاهدًا بذلك على نفسه بمنهج الموازنات المبتدَع. وكأنَّ الرَّجل لا يعرِف السُّنَّة مِنَ البدعة، ثُمَّ يأتي ليتكلَّم في دين الله، فاللَّهمَّ لا تَجعل مصيبتنا في ديننا.
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبةٌ … وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم.
وقياسك لابن حزامٍ على محمَّدٍ المهديِّ؛ يدلُّ على انحرافه عندك، فلماذا هذا العويل والتَّهويل والتَّخبُّط؟!.
ثمَّ ذهَب يلبِّس وأنَّ الدُّعاء ليس بتعصُّبٍ، وأنَّه يجوز الدُّعاء لليهود والنَّصارى. فأقول: أنت تعلم جيِّدًا ماذا أقصد وأنكِر وهو تعصُّبك الفاضح له، وقد سبَق ذكر الأساليب التي استعملت في ذلك.
واتهامك لنا بإرادة إحراز السَّبق الصُّحفيِّ، تهمةٌ باطلةٌ، فلم يدُر ذلك في أذهاننا والله المطَّلع، فنحن نفرح بالحقِّ، سُبقنا أو سَبقنا. ويتَّضح مِن أسلوبك مَن هو الصحفيُّ حقًّا؛ فما وفِّقت في الكتابة ولا في المعنى ولا في الردِّ، والله المستعان.
وما ذكرتَه مِنَ الفراسة ثُمَّ أضربت عنها إلى التَّمني، مع أنَّ التَّمني مِنَ أعمال القلوب، كما سبَق ذكر ذلك والردُّ عليه. فيقال: نحن لم نتفرَّس فيه، وإنَّما كان ردُّ أخينا العربيِّ البسكريِّ عليه؛ بناءً على صوتيَّةٍ له فيها غلوٌّ في العلماء. والذي تفرَّس فيه ذلك بحقٍّ هو الشَّيخ سعيدٌ رحمه الله، وحكَم بضعفه؛ لأنَّه ليس له جهودٌ في الردِّ على أهل الأهواء، وهو مقياسٌ سلفيٌّ فذٌّ، يعرف به السَّلفيُّ مِن غيره. قال الشُيخ سعيدٌ رحمه الله في “ضرورة التَّأهلِّ في الحكم على أهل الأهواء” المطبوع بذيل “ضوابط الحكم بالابتداع” ط/دار الحديث بدمَّاج (ص147): “أَو مُتَفقِّهٌ، لا يُحسنُ إلَّا جَمعَ أقوَال الفُقهَاءِ وحفظِهَا، أو مُتعَالمٌ مُقمِّشٌ، أخذَ مِن كُلِّ فَنٍّ بِنُتَفٍ يَسِيرَةٍ، لا تُسمِنُ ولا تُؤَهِّلُ، فَراحَ يَخبِطُ ذاتَ اليَمينِ وذاتَ الشِّمالِ خَبطَ عشواءٍ، بالآراءِ الشَّاذَّة، والشَّطحَاتِ الـمُستَغرَبةِ، وهوَ يَظنُّ أنَّهُ عَلى جانبٍ مِنَ العِلمِ مكَينٍ”. اهـ 
والغرض مِن كُلِّ هذه الشوشرة، هو أن لا يظهَر الحقُّ مع غيرك، تحجيرًا على فضل الله، قال الله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 90]. 
وإخبارك عن بعض السَّلفيين، أنَّهم عندهم معاصي ويضيِّعون الفرائض، إن كان بسب إنكار ما تدعو إليه مِن باطلٍ، فهو مقاضاة أغراضٍ. وكعادتك في التَّهويل على المخالف، وكأنَّك أحد المعصومين؛ لأنَّهم لو كانوا مِنَ الموافقين، لبرزت أدلَّة السِّتر واستُقصيت، وكتَبت في ذلك الدواوين. وإن كان العاصي أفضل حالًا مِن صاحب الشُّبهات والمحدثات؛ لأنَّه لا يقرِّها ولا يعتبرها دينًا، أمَّا أنت فأصبحت تتعبَّد لله بالأصول الفاسدة. قال الإمام أحمد رحمه الله: “قبور أهل السُّنَّة مِنَ أهل الكبائر روضةٌ وقبور أهل البدعة مِنَ الزُّهَّاد حفرةٌ فسَّاق أهل السُّنَّة أولياء اللَّه وزهَّاد أهل البدعة أعداء اللَّه”(4). اهـ 
وننصح أنفسنا وكلُّ مَن وقع فيها بالتَّوبة والإنابة، عملًا بقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. 
وبهذا يتَّضح جليًّا للقارئ المنصف، مَن هو الشَّر على السَّلفيَّة والسَّلفيِّين، وذلك بشهادة الموافق قبل المخالف. فقد وصفك موافقوك بالحرباء، وقد بيَّنت كذبك وتلوُّنك في ردٍّ سابقٍ. أمن يبيِّن حكْم الله وحكْم رسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، في هذا الباب هو الشَّر، أم مَن يكتمه ويلبسه بالباطل، أحرى بهذا الوصف. قال الله تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنعام: 81]. 
وفي الختام أسأل الله العظيم أن يقينا شرَّ كلِّ ذي شرٍّ، ومنهم هذا المحتال القابع خلف الحاسوب والجوَّال؛ لنشر الغيِّ والضَّلال. إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
                  كتبه أبو عبد الله إبراهيم بن خالدٍ التبسيُّ الجزائريُّ
                  تمَّ الفراغ منه صبيحة الأحد 22 ذو الحجة عام 1442 هجريٍّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إشارةً إلى ما أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج3-1360)، و(ج7-3884)، و(ج8-4675-4772) ط/ دار الفيحاء، ومسلمٌ- نوويٌّ- (ج1-24) ط/ دار الفيحاء، من حديث المسيَّب بن حزنٍ رضي الله عنه.
2 طرفٌ مِن حديثٍ أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج3-1356)، مِن حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.
3 أخرجه البخاريُّ- فتحٌ- (ج7-4269)، و(ج12-6872)، ومسلمٌ- نوويٌّ- (ج2-96)، واللَّفظ له.
4 أخرجه ابن أبي يعلى في “طبقات الحنابلة” (ج1ص148) ط/ دار المعرفة.